كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَتَذْكِيرِهِمْ بِمُعَارَضَتِهِ لِمَا أَلِفُوا مِنْ تَقَالِيدِهِمْ وَفَسَادِ نَظَرِهِمْ. وَلَا عَنْ أُسْلُوبِ إِنْذَارِ سُوءِ الْمَغَبَّةِ فِي الْعَاجِلَةِ. وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ وَالْمَصِيرِ فِي الْآخِرَةِ.
أَضَلَّتِ الْفَلْسَفَةُ الْيُونَانِيَّةُ عُلَمَاءَ الْكَلَامِ عَنْ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ الْعُلْيَا فَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَا وَلَا اقْتَدَوْا بِشَيْءٍ مِنْهَا، بَلْ طَفِقُوا يُلَقِّنُونَ النَّشْءَ الْإِسْلَامِيَّ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى مَسْرُودَةً سَرْدًا مَعْدُودَةً عَدًّا.
مُعَرَّفَةً بِحُدُودٍ نَاقِصَةٍ، أَوْ رُسُومٍ دَارِسَةٍ مَقْرُونَةٍ بِأَدِلَّةٍ نَظَرِيَّةٍ وَتَشْكِيكَاتٍ جَدَلِيَّةٍ. لَا تُثْمِرُ إِيمَانَ الْإِذْعَانِ، وَلَا خَشْيَةَ الدَّيَّانِ، وَلَا حُبَّ الرَّحْمَنِ، بَلْ تُثِيرُ رَوَاكِدَ الشُّبُهَاتِ. وَتَتَعَارَضُ فِي إِثْبَاتِهَا دَلَائِلُ النَّظَرِيَّاتِ.
تَأَمَّلْ كَيْفَ بُدِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِحَمْدِ اللهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. ثُمَّ التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ النَّاسِ وَقَضَاءِ الْآجَالِ، وَكَيْفَ عُطِفَ عَلَى الْأَوَّلِ ذِكْرُ شِرْكِ الْكَافِرِينَ بِرَبِّهِمْ بِجَعْلِ بَعْضِ خَلْقِهِ عَدْلًا لَهُ. مَعَ أَنَّ الْبَدَاهَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ لَا يُعَادِلُهُ أَحَدٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَعُطِفَ عَلَى الثَّانِي التَّنْبِيهُ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَانِعُ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ. تَذْكِيرًا لِلْمُسْتَعِدِّ لِلْفَهْمِ بِالْمَانِعِ لِيُجْتَنَبَ، وَالْمُقْتَضِي لِيُتَّبَعَ، وَإِيذَانًا لِلْعَاقِلِ بِأَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ مُؤَيَّدَةٌ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ.
وَلَمَّا كَانَ التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ لُبَابُ الدِّينِ وَرُوحُهُ نَوْعَيْنِ- تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ- بَيَّنَ كُلًّا مِنْهُمَا بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ، وَلَمَّا كَانَ الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ قَلِيلًا فِي النَّاسِ وَالشَّرَكُ فِي الْإِلَهِيَّةِ دُونَ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ الْكَثِيرَ الْفَاشِيَ، وَعَلَيْهِ سَوَادُ جَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِ الْأَعْظَمِ، بُنِيَ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ هَذَا عَلَى بُطْلَانِ ذَاكَ، كَمَا بُنِيَتْ حُجَجُ إِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْمُعْتَرَفِ بِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْآخَرِ، رَاجِعْ فِي فِهْرَسَيِ الْجُزْءَيْنِ السَّابِعِ وَالثَّامِنِ مِنَ التَّفْسِيرِ بَحْثَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَالشَّفَاعَةِ وَالرَّبِّ وَالْإِلَهِ وَالْجَزَاءِ، وَفِي آخِرِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ بِحَثَ نَجَاةِ النَّاسِ وَسَعَادَتِهِمْ أَوْ شَقَاوَتِهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ.
وَأَنْتَقِلُ بِكَ مِنْ هَذَا التَّذْكِيرِ إِلَى قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِمَا وَسَلَّمَ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمُ اتِّخَاذَ الْأَصْنَامِ آلِهَةً أَيْ مَعْبُودِينَ. وَاتِّخَاذَ الْكَوَاكِبِ أَرْبَابًا أَيْ مُدَبِّرِينَ لِأُمُورِ الْعَالَمِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا خَالِقِينَ، وَهُوَ بَحْثٌ جَاءَ بِأُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ فِي قِصَّةٍ وَاقِعَةٍ تَعَدَّدَتْ فِيهَا الْحُجَجُ عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ مَعًا، فَكَانَ أَجْدَرَ بِأَنْ يُوعَى فَيُحْفَظَ، وَيُعْقَلَ فَيُقْبَلَ. وَقَدْ أَسْهَبْنَا الْقَوْلَ فِي تَفْسِيرِهِ بِمَا لَمْ يَأْتِ بِمِثْلِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمَعْرُوفِينَ فَاسْتَغْرَقَ خَمْسِينَ صَفْحَةً أَوْ أَكْثَرَ ص435- 486 ج 7 ط الْهَيْئَةِ.
وَمِنْ أَبْلَغِ مَا فِي السُّورَةِ مِنْ تَقْرِيرِ عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ وَسُوءِ حَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي ضَلَالِهِمْ عَنْهَا وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ آيَاتِهَا بِأُسْلُوبِ التَّمْثِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [39] فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِهَا (فِي ص336- 339 مِنْ ج7 تَفْسِيرٌ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} [71] إِلَخْ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا (ص 435- 442 ط الْهَيْئَةِ مِنْهُ أَيْضًا).
وَلَا حَاجَةَ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى شَوَاهِدِ بَيَانِ التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِكَثْرَتِهَا مَعَ ظُهُورِهَا لِكُلِّ قَارِئٍ بِصِيغَتِهَا.
وَلَعَلَّ أَرَقَّ أَسَالِيبِ الْإِقْنَاعِ، وَأَبْلَغَ وَسَائِلِ الْإِذْعَانِ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ، إِحَالَةُ الْمُخَاطَبِينَ إِلَى غَرَائِزِهِمْ وَفِطَرِهِمْ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِتَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ التَّقْلِيدِيَّةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمَنَاشِئِ عُرُوضِ الشُّبَهَاتِ لِأَذْهَانِهِمْ، وَإِلْزَامُهُمُ الْحُجَّةَ بِمُحَاسَبَةِ عُقُولِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى تَعَارُضِ الْأَفْكَارِ وَتَنَاقُضِ الْأَقْوَالِ، بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَمُخَالَفَةِ التَّقَالِيدِ وَالْمُسَلَّمَاتِ، لِلْغَرَائِزِ وَالْمَلَكَاتِ. وَيَتْلُو هَذَا الْأُسْلُوبَ إِحَالَتُهُمْ عَلَى مِثَالِ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْمُعَاصِرِينَ، وَالِاعْتِبَارِ بِسِيَرِ الْغَابِرِينَ. فَآيَاتُهُ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ أَقْوَى مِنْ آيَاتِهِ فِي غَيْرِهَا {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [51: 20، 21]. تَأَمَّلْ وَصْفَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ التَّاسِعَةِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ جَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي تَأْتِيهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ لِمَّا جَاءَهُمْ، وَالْحَزْمِ بِأَنَّهُمْ يُكَابِرُونَ الْحِسَّ وَيَشْتَبِهُونَ فِي اللَّمْسِ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ مُحِيطِ اللَّبْسِ، وَقَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [109] إِلَى قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [111] ثُمَّ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِقَطْعِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ لِاعْتِذَارِهِمْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ عَنْ شِرْكِهِمْ وَضَلَالِهِمْ بِأَنَّ الْكِتَابَ إِنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا غَافِلِينَ عَنْ دِرَاسَتِهِ، جَاهِلِينَ لِهِدَايَتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ لَكَانُوا أَهْدَى مِنْهُمْ لِذَكَاءِ عُقُولِهِمْ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِمْ- فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ 154- 157.
ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أُولَئِكَ الْمُعْرِضِينَ بَعْدَ تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُحُودِهِمْ {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [35] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (39) تَرَ كَيْفَ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الْجَهْلَ وَالْحِرْمَانَ مِنَ الْعِلْمِ، وَشَبَّهَهُمْ بِالصُّمِّ الْبُكْمِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ الْتَفَتَ عَنْ خِطَابِ الرَّسُولِ إِلَى خِطَابِهِمْ، سَائِلًا إِيَّاهُمْ أَنْ يُرَاجِعُوا عُقُولَهُمْ وَضَمَائِرَهُمْ وَيُخْبِرُوا كَيْفَ حَالُهَا إِذَا أَتَاهَا عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْهَا السَّاعَةُ؟ أَغَيْرَ اللهِ يَدْعُونَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؟ ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُمْ بِمَا يَعْلَمُونَهُ حَقَّ الْعِلْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الشِّدَّةِ الْقُصْوَى يَدْعُونَ اللهَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ لَا يَخْطُرُ فِي بَالِهِمْ سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْوُجْدَانِيُّ الَّذِي فَطَرَ اللهُ عَلَيْهِ النَّاسَ فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْهُ الْوَسَاوِسُ الْوَهْمِيَّةُ، وَالتَّقَالِيدُ الْمَوْرُوثَةُ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي ص317- 345 ج 7 ط الْهَيْئَةِ).
وَلَا تَغْفَلْ عِنْدَ مُرَاجَعَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ عَمَّا يُمَازِجُهَا أَوْ يُقَارِنُهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي الْأُسْلُوبِ الْآخَرِ الْمُنَاسِبِ لَهُ، وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَقِيَامِ حُجَجِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ. فَإِنَّمَا غَرَضُنَا هَذَا التَّنْبِيهُ وَالتَّذْكِيرُ، وَإِذَا أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى وَوَفَّقَنَا لِإِنْجَازِ مَا وَعَدْنَا بِهِ مِنْ وَضْعِ كِتَابٍ فِي فِقْهِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ مُرَتَّبٍ عَلَى أَبْوَابِ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ فَهُنَاكَ نَسْتَوْفِي بَيَانَ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ فِي إِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ.
وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ شَيْءٍ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى أُسْلُوبِ إِنْذَارِ الْعَاقِبَةِ وَسُوءِ الْمَصِيرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهَا جَلِيَّةٌ وَاضِحَةُ الْأَسَالِيبِ فِي عَقِيدَةِ الْوَحْيِ وَالرُّسُلِ.
الْأَسَالِيبُ فِي عَقِيدَةِ الْوَحْيِ وَالرُّسُلِ وَأَمَّا مَسَائِلُ الرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الِاعْتِقَادِ وَهُوَ الْوَحْيُ وَالرُّسُلُ، فَنَسْتَغْنِي عَنِ التَّذْكِيرِ بِأَسَالِيبِ الْإِثْبَاتِ وَطُرُقِ الْإِقْنَاعِ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا فِي عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ وَآيَاتِهِ وَصِفَاتِ اللهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْكُفَّارِ أَجْمَعِينَ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَا فِيهِ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى مُكَابَرَةِ الْمُعَانِدِينَ لِلْآيَاتِ وَالْحُجَجِ، تَشْتَرِكُ فِيهِ حُجَجُ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ مَعَ حُجَجِ التَّوْحِيدِ وَسَنُشِيرُ إِلَى بَعْضِهِ هُنَا. وَإِنَّمَا الْمُهِمُّ تَذْكِيرُ الْقَارِئِ ابْتِغَاءَ الِاهْتِدَاءِ فِي نَفْسِهِ وَالْهِدَايَةِ لِغَيْرِهِ بِالْآيَاتِ الَّتِي تُعَرِّفُهُ مَوْضُوعَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَصِفَاتِ الرُّسُلِ وَوَظَائِفَهُمْ، وَمَا أُيِّدُوا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ لِإِثْبَاتِ دَعْوَتِهِمْ، وَشُبُهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَى ذَلِكَ وَبَيَانَ بُطْلَانِهَا.
قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ أَنَّ أَكْثَرَ الْبَشَرِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ خَالِقًا مُقَدِّرًا وَرَبًّا مُدَبِّرًا، وَأَنَّ هَذَا الرَّبَّ الْخَالِقَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَيُشْكَرَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ كُفْرَ أَكْثَرِ الْكُفَّارِ إِنَّمَا هُوَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ مَعَهُ، وَلَوْ بِقَصْدِ التَّوَسُّلِ لِلتَّقْرِيبِ إِلَيْهِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ. وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ يَكْفُرُونَ بِالرُّسُلِ سَوَاءٌ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِوُجُودِ اللهِ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، أَمْ لَا وَهْمُ الْأَقَلُّونَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ اسْتِبْعَادُ وُقُوعِ الْوَحْيِ وَشُبُهَاتٌ أُخْرَى عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَمَوْضُوعَ الْوَحْيِ وَالدَّلِيلَ عَلَيْهِ وَوَظَائِفَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَكَشَفَتْ مَا أَوْرَدُوا مِنَ الشُّبُهَاتِ عَلَى ذَلِكَ. فَنَحْنُ نُلَخِّصُ أَوَّلًا مَا جَاءَ فِي مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَمَوْضُوعِهَا وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ، ثُمَّ نُقَفِّي عَلَيْهِ بِمَا وَرَدَ فِيمَا أَثْبَتَهَا اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَدَفْعِ الشُّبُهَاتِ عَنْهَا فَنَقُولُ:
مَوْضُوعُ الرِّسَالَةِ وَوَظَائِفِ الرَّسُولِ إِنَّ الرَّسُولَ بَشَرٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا غَيْرَ مُكْتَسَبٍ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ بِهِ إِلَى مَا تَتَزَكَّى بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَتَتَهَذَّبُ بِهِ أَخْلَاقُهُمْ، وَتَصْلُحُ بِهِ أَحْوَالُهُمُ الشَّخْصِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ. بِحَيْثُ يَكُونُ الْوَازِعُ لَهُمْ بِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ الْإِيمَانُ الْيَقِينِيُّ وَالتَّسْلِيمُ الْإِذْعَانِيُّ بِالتَّعْلِيمِ وَالْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَا الْقَهْرُ وَالسَّيْطَرَةُ، وَبِذَلِكَ يَكُونُونَ سُعَدَاءَ فِي الدُّنْيَا بِقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا مِنَ السَّعَادَةِ وَيَحْيَوْنَ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ الْعُلْيَا فِي الْآخِرَةِ.
وَصَفَ اللهُ تَعَالَى مَا أَرْسَلَ بِهِ خَاتَمَ رُسُلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ الْحَقُّ، وَبِأَنَّهُ بَصَائِرُ لِلنَّاسِ، وَبِأَنَّهُ هُدًى وَرَحْمَةٌ، وَبِأَنَّهُ صِدْقٌ وَعَدْلٌ، وَبِأَنَّهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَدِينٌ قَيِّمٌ. وَأَثْبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ نَفْسَهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَالْمُهْتَدِينَ بِهِ. قَالَ تَعَالَى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [5] وَقَالَ: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [66] وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [114] وَقَالَ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [57] وَالْحَقُّ هُوَ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُتَحَقِّقُ بِنَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ وَلَا إِبْطَالُهُ- فَبِهَذَا الْوَصْفِ يُنَبِّهُ الْعُقَلَاءَ إِلَى أَنْ يَبْحَثُوا عَنْ حَقِّيَّتِهِ بِفِكْرٍ مُسْتَقِلٍّ وَبِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ لِيَصِلُوا بِأَنْفُسِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ أَنَّهُ الْحَقُّ. وَهِيَ غَايَةٌ لابد أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا الْبَاحِثُ الْمُنْصِفُ الْبَرِيءُ مِنَ الْأَهْوَاءِ فِي نَظَرِهِ، وَمِنْ قُيُودِ التَّقْلِيدِ فِي طَلَبِهِ لِلْحَقِّ. كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ فُصِّلَتْ {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [41: 53] كَذَلِكَ كَانَ وَهَكَذَا يَكُونُ.
وَقَالَ: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [104] وَالْبَصَائِرُ جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَهِيَ الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ كَالْبَصَرِ فِي إِدْرَاكِ الْحِسِّ فَتُطْلَقُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ الْيَقِينِيَّةِ، وَعَلَى الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ. وَفِي مَعْنَاهُ وَصْفُ الْوَحْيِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِقَوْلِهِ: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [7: 203] وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: [45: 20] وَأَمَرَ رَسُولَهُ فِي أَوَاخِرَ سُورَةِ يُوسُفَ بِأَنْ يَقُولَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [12: 108] وَيُؤَيِّدُ هَذَا كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ وَمُخَاطَبَةِ الْعَقْلِ. وَكَانَ أَصْحَابُ الْأَدْيَانِ الْمُحَرَّفَةِ وَالْأَدْيَانِ الْمُبْتَدَعَةِ قَدْ بَعُدُوا عَنِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَاعْتَمَدُوا فِي الدَّعْوَةِ وَتَلْقِينِ الدِّينِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّقْلِيدِ الْأَعْمَى.
وَوَصَفَ الْقُرْآنَ فِي آيَةِ 155 بِأَنَّهُ مُبَارَكٌ، أَيْ جَامِعٌ لِأَسْبَابِ الْهِدَايَةِ الدَّائِمَةِ النَّامِيَةِ، ثُمَّ قَالَ فِي آيَةِ 157: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} وَقَالَ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} [161] وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ أَقْرَبُ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى السَّعَادَةِ الَّتِي شُرِعَ لَهَا الدِّينُ مِنْ غَيْرِ عَائِقٍ وَلَا تَأْخِيرٍ، وَالْقَيِّمُ مَا يَقُومُ وَيَثْبُتُ بِهِ الْأَمْرُ الْمَطْلُوبُ حَتَّى لَا يَفُوتَ صَاحِبَهُ. وَقَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [195] أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ. فَهَذِهِ أُمَّهَاتُ الْآيَاتِ فِي بَيَانِ صِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ لِتَكْمِيلِ أَنْفُسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الدَّعْوَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّنْبِيهِ وَعَطْفِ النَّظَرِ إِلَى الشَّيْءِ الْبَدِيعِ الصُّنْعِ الْبَالِغِ مُنْتَهَى الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ الَّذِي يُدْرَكُ جَمَالُهُ وَكَمَالُهُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إِلَيْهِ. لَعَمْرِي إِنَّ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ مُسْتَقِلَّ الْفِكْرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يُثْبِتُ بِهِ كَوْنَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ حَقًّا وَصِدْقًا وَعَدْلًا وَصِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَقَدْ أَثْبَتَتِ الْوَقَائِعُ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ لِإِدْرَاكِ حَقِّيَّةِ مَوْضُوعِهَا وَخَيْرِيَّتِهِ كَانُوا أَكْمَلَ النَّاسِ عَقْلًا وَنَظَرًا وَفَهْمًا وَفَضْلًا كَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. عَلَى أَنَّهُ أَرْشَدَ إِلَى الِاعْتِمَادِ فِيهِ عَلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالْحُجَجِ الْوَاضِحَاتِ، وَمَتَى ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ حَقِّيَّةُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَحُسْنُهُ وَنَفْعُهُ فَمِنَ الْحَمَاقَةِ أَنْ يُتْرَكَ الِاهْتِدَاءُ بِهِ لِأَجْلِ مُشَارَكَتِهِ لَنَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، أَوِ اسْتِبْعَادِ مَا فَضَّلَهُ اللهُ بِهِ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ.
الرَّسُولُ وَوَظَائِفُهُ أُمِرَ الرَّسُولُ أَنْ يُخَاطِبَ النَّاسَ بِقَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [57] وَالْبَيِّنَةُ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْعِلْمُ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ مُبَيِّنًا لَهُ بِهِ الْحَقَّ مُؤَيَّدًا بِالدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفِطْرِيَّةِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [12: 108] فَلَيْسَ فِي دِينِهِ تَحَكُّمٌ وَلَا إِكْرَاهٌ؛ إِذْ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [66] أَيْ لَيْسَ أَمْرُ هِدَايَتِكُمْ وَالتَّصَرُّفِ فِي شُئُونِكُمْ مَوْكُولًا إِلَيَّ مِنَ اللهِ بِحَيْثُ أَكُونُ مُسَيْطِرًا عَلَيْكُمْ وَمُلْزِمًا إِيَّاكُمْ كَشَأْنِ الْوَكِيلِ عَلَى أَعْمَالِ النَّاسِ. وَبَيَّنَ فِي الْآيَاتِ 104- 107 أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَائِرُ لِلنَّاسِ، فَمَنْ أَبْصَرَ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّبَعَهُ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ فَهُوَ الَّذِي سَيَسْعَدُ بِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا الْوِزْرُ إِذْ هُوَ الَّذِي يَشْقَى بِهِ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أَيْ بِمُوكَّلٍ بِإِحْصَائِهَا وَحِفْظِهَا لِأَجْلِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى جَدُّهُ بِأَنَّ هَذَا مِنْ تَصْرِيفِهِ الْآيَاتِ وَتَنْوِيعِهِ الدَّلَائِلَ وَتَبْيِينِهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ- إِلَى أَنْ قَالَ: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ فِي ص 547- 552 ج 7 ط الْهَيْئَةِ).
وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالُهَا تَفْصِيلٌ لِلْآيَةِ الَّتِي حُصِرَتْ فِيهَا وَظِيفَةُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ فِي التَّبْلِيغِ وَالتَّعْلِيمِ الْمُنْقَسِمِ إِلَى التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [48] وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْحَصْرِ بِصِيغَةِ الْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ، الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِيمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْجَاهِلُ أَوْ خَالِي الذِّهْنِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْهَادِمَةِ لِعَقَائِدِ الْكُفَّارِ فِي الرُّسُلِ وَخَوَاصِّ أَتْبَاعِهِمُ الَّتِي مِنْهَا أَنَّهُمْ وُكَلَاءُ اللهِ عَلَى الْأَرْضِ بِيَدِهِمُ الْهُدَى وَالْحِرْمَانُ مِنْهُ وَالْإِسْعَادُ وَالْإِشْقَاءُ وَالرَّحْمَةُ وَالْغُفْرَانُ وَالْعِقَابُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَوَرَدَتْ آيَاتٌ أُخْرَى مِثْلُهَا فِي عِدَّةِ سُوَرٍ مِنْهَا مَا هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الرُّسُلِ وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِخَاتَمِهِمْ، وَوَرَدَتْ آيَاتٌ أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا ذُكِرَ الْحَصْرُ فِيهَا بِصِيغَةِ إِنَّمَا وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الْأُولَى كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَهِيَ الصِّيغَةُ الَّتِي يُخَاطَبُ بِهَا مَنْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ بِالشَّيْءِ لِنُكْتَةٍ مِنَ النُّكَتِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [145] الْآيَةَ.
وَكَمَا غَلَا الضَّالُّونَ فِي الرُّسُلِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ بِجَعْلِهِمْ وُكَلَاءَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْهِدَايَةِ وَالْجَزَاءِ كَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعِقَابِ، غَلَوْا فِيهِمْ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ وَأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي أُمُورِ الْأَرْضِ، فَيُوَسِّعُونَ عَلَى النَّاسِ الرِّزْقَ، وَيَقْضُونَ الْحَاجَاتِ بِقُوَّةٍ غَيْبِيَّةٍ إِلَهِيَّةٍ فِيهِمْ مُخَالِفَةٍ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي النَّاسِ، أَوْ بِحَمْلِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَوْلَاهُمْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَأَنَّهُمْ فِي تَفَوُّقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ كَالْمَلَائِكَةِ أَوْ أَعْظَمَ تَأْثِيرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ رُسُلِهِ فَسَادَ هَذَا الْغُلُوِّ وَبُطْلَانَ هَذِهِ الْعَقَائِدِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الرُّسُلَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ فِي سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ مَيَّزَهُمْ بِالْوَحْيِ وَعَصَمَهُمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي تَبْلِيغِ مَا أَمَرَهُمْ بِتَبْلِيغِهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَمِمَّا يَحُولُ دُونَ التَّأَسِّي بِهِمْ، وَحَسْبُكَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي إِثْرِ قَوْلِهِ: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [48]: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [50] فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا (ف ص352- 360 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ) فَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ بُطْلَانَ مَا سَرَى إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْوَثَنِيَّةِ وَالْكُتُبِ الْمُحَرَّفَةِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَيَتَصَرَّفُونَ فِي خَزَائِنِ مُلْكِ اللهِ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَإِلْحَاقِهِمْ إِيَّاهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، حَتَّى صَارُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ عَيْنُ الْعِبَادَةِ الَّتِي يُسَمَّى الَّذِينَ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ آلِهَةً.